فصل: موعظة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

عباد الله كلن سلفنا يزور بعضهم بعضًا للمذاكرة للعلم وتذكر الملمات والمهمات يتساءلون عن ما خفي عليهم معناه من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وعن أورادهم ومقدارها في الصلاة والصيام والأذكار والصدقات وعن الكتب النافعة ليقتنوها والكتب الضارة ليجتنبوها.
هذا مدار مجالسهم لا يخطؤنه ولا يدور لهم غيره على بال أين هذا من مجالسنا وهي موارد غضب ومقت وغيبة ونميمة وبهت ومداهنةٍ ومصانعةٍ وقذفٍ وتساؤلٍ كم مرتب فلان، وفي إي مرتبة زيد، وكم فلة وعمارة لعمر، وكم دكان لبكرٍ وبكم باع فلان بيته، وما الذي أذيع في الملاهي، وانكباب على المجلات والجرائد حملات الكذب قتلات الأوقات في اللهو وما لا فائدة فيه وأين قضيت العطلة في لبنان أو في أوربا أو في مصر.
كانت أسفار السلف للقاء أحبار الأمة أوعية العلم مهما كانوا بعيدين يتلقون عنهم علم الكتاب والسنة ويتفقهون عليهم في الدين أليس من المؤسف أن يكون أولئك الناس سلفنا وبيننا وبينهم هذا الانفصال.
كان حب بعضهم لبعضٍ وتواددهم وتراحمهم فوق ما يتصور كان يمر المار في بيوتهم فلا يسمع إلا دوي أصواتهم بذكر الله وتلاوة كتابه.
والآن ما تسمع من بيوتنا إلا ما يحرض على الفسق والفجور والعصيان والنشوز والمخاصمات والطلاق والتفرق والقطيعة والعقوق من أغانٍ وألحانٍ من مذياعٍ وتلفزيون وفديو ونحوه من آلات اللهو التي عمت وطمت وابتلى بها الخلق وحطمت الأديان والأخلاق وقضت على الغيرة الدينية.
تنبيه: أنتبه يا من زين له سوء عمله فأتى بكفار خدامين أو سائقين أو مربين أو خياطين أو طباخين وأمنهم على أهله وأولاده ومحارمه أما تعلم أنهم أعداء لله ورسوله والمؤمنين حذر يا أخي عن بثهم بين المسلمين وقل له عملك هذا والعياذ بالله ذنب عظيم نشر للفساد بين المسلمين وجناية عظيمة على من هم أمانة عندك ومصادمة لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله»، هذا ما نقدر عليه من النصح وانكار المنكر، نسأل الله العصمة وستظهر ثمرة مخالطة الأجانب واستخدامهم بعد ثمان أو عشر سنوات، الله اعلم فيما أظن وسيندم المستخدمون ونحوهم ندامة عظيمة عندما يتخلق أولادهم وأهليهم بأخلاق الكفرة والفسقة ويشبون عليها يألفونهم ولغتهم. ولكن لا ينفع الندم حينما يفوت الآوان ويتذكرون نصح الناصح وإهمالهم له.
اللهم أنظمنا في سلك الفائزين برضوانك، واجعلنا من المتقين الذين أعددت لهم فسيح جنابك، وأدخلنا برحمتك في دار أمانك، وعافنا يا مولانا في الدنيا والآخرة من جميع البلايا، وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا ارحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال ابن القيم رحمه الله:
وَالِي أَوْلي الْعِرْفَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيـ ** ـثِ خُلاصَةُ الإِنْسَانِ وَالأَكْوَانِ

قَوْمٌ أَقَامَهُمُوا الإِلَهِ لِحِفْظِ هَـ ** ـذَا الدِّينِ مِنْ ذِي بِدْعَةٍ شَيْطَانِ

وَأَقَامَهُمْ حَرَسًا مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّـ ** ـحْرِيفِ وَالتَتْمِيمِ وَالنُّقْصَانِ

يَزَكٌ عَلَى الإِسْلامِ بَلْ حِصْنٌ لَهُ ** يَأْوِي إِلَيْهِ عَسَاكِرُ الْفُرْقَانِ

فَهُمْ الْمحكُّ فَمَنْ يَرَى مُنْتَقِصًا ** لَهُمُوا فَزِنْدِيقٌ خَبِيثُ جَنَانِ

قَوْمٌ هُمُوا بِاللهِ ثُمَّ رَسُولِهِ ** أَوْلَى وَأَقْرَبُ مِنْكَ لِلإِيمَانِ

شَتَّانَ بَيْنَ التَّارِكِينَ نُصُوصَهُ ** حَقًّا لأَجْلِ زُبَالَةِ الأَذْهَانِ

وَالتَّارِكِينَ لأَجْلِهَا آرَاءَ مِنْ ** آرَاؤُهُمْ ضَرْبٌ مِنْ الْهَذَيَانِ

لَمَّا فَسَا الشَّيْطَانُ فِي آذَانِهِمْ ** ثَقُلَتْ رُؤْسُهُمُوا عَنْ الْقُرْآنِ

فَلِذَاكَ نَامُوا عَنْهُ حَتَّى أَصْبَحُوا ** يَتَلاعَبُونَ تَلاعُبَ الصِّبْيَانِ

وَالرَّكْبُ قَدْ وَصَلُوا الْعُلا وَتَيَمَّمُوا ** مِنْ أَرْضِ طَيْبَةِ مَطْلَعِ الإِيمَانِ

وَأَتَوْا إِلَى رَوْضَاتِهَا وَتَيَمَّمُوا ** مِنْ أَرْضِ مَكَّةَ مَطْلَعِ الْقُرْآنِ

قَوْمٌ إِذَا مَا نَاجِذُ النَّصِّ بَدَا ** طَارُوا لَهُ بِالْجَمْعِ وَالْوِجْدَان

وَإِذَا هُمُوا سَمِعُوا بِمُبْتَدِعٍ هَذَى ** صَاحُوا بِهِ طُرًّا بِكُلِّ مَكَانِ

وَرِثُوا رَسُولَ اللهِ لَكِنْ غَيْرُهُمْ ** قَدْ رَاحَ بِالنُّقْصَانِ وَالْحِرْمَانِ

وَإِذَا اسْتَهَانَ سِوَاهُمُ بِالنَّصِّ لَمْ ** يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا مِنْ الْخُسْرَانِ

عَضُّوا عَلَيْهِ بِالنَّوَاجِذِ رَغْبَةً ** فِيهِ وَلَيْسَ لَدَيْهِمُ بِمُهَانِ

لَيْسُوا كَمَنْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَقِيقَةً ** وَتِلاوةً قَصْدًا لِتَرْكِ فُلانِ

عَزَلُوهُ فِي الْمَعْنَى وَوَلَّوْا غَيْرَهُ ** كَأَبِي الرَّبِيعِ خَلِيفَةِ السُّلْطَانِ

ذَكَرُوهُ فَوْقَ مَنَابِرٍ وَبِسِكَّةٍ ** رَقَمُوا اسْمَهُ فِي ظَاهِرِ الأَثْمَانِ

وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُّ الْمَطَاعُ لِغَيْرِهِ ** وَلِمُهْتَدٍ ضُرَبْتَ بِذَا مَثَلانِ

يَا لِلْعُقُولِ أَيَسْتَوِي مَنْ قَالَ بِالْـ ** ـقُرْآنِ وَالآثَارُ وَالْبُرْهَانِ

وَمُخَالِفٌ هَذَا وَفِطْرَةَ رَبِّهِ ** اللهُ أَكْبَرُ كَيْفَ يَسْتَوِيَانِ

بَلْ فِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فُطِرُوا عَلَى ** مَضْمُونِهَا وَالْعَقْلُ مَقْبُولانِ

وَالْوَحْيُ جَاءَ مُصَدِّقًا لَهُمَا فَلا ** تَلْقَى الْعَدَاوَةَ مَا هُمَا سِلْمَانِ

فَإِذَا تَعَارَضَ نَصُّ لَفْظٍ وَارِدٍ ** وَالْعَقْلُ حَتَّى لَيْسَ يَلْتَقِيَانِ

فَالْعَقْلُ إِمَّا فَاسِدٌ وَيَظُنَّهُ الرَّ ** أْيُ صَحِيحًا وَهُوَ ذُو بُطْلانِ

أَوْ أَنَّ ذَاكَ النَّصُّ لَيْسَ بِثَابِتٍ ** مَا قَالَهُ الْمَعْصُومُ بِالْبُرْهَانِ

وَنُصُوصُهُ لَيْسَتْ يُعَارِضُ بَعْضُهَا ** بَعْضًا فَسَلْ عَنْهَا عَلِيمَ زَمَانِ

وَإِذَا ظَنَنْتَ تَعَارُضًا فِيهَا فَذَا ** مِنْ آفَةِ الأَفْهَامِ وَالأَذْهَانِ

أَوْ أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ لَيْسَ بِثَابِتٍ ** مَا قَالَهُ الْمَبْعُوثُ بِالْقُرْآن

اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا حبك وحب من ينفعنا حبه عندك، اللهم وما رزقتنا مما نحب فاجعله قوة لنا فيما تحب، اللهم وما زويت عنا مما نحب فاجعله فراغًا لنا فيما تحب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
اللهم اقبل توبتنا واغسل حوبتنا واجب دعوتنا وثبت حجتنا واهد قلوبنا وسدد ألسنتنا واسلل سخيمة قلوبنا واجعلنا هداة مهتدين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موعظة:
عباد الله طاعة الله صلاح في الأرض لهذا أمر الله عز وجل بالطاعات وهذه الطاعات ترضيه سبحانه وتعالى لأنه شكور غفور وهذه الطاعات هي السبب الذي به يكون يسر العباد فيكونون في حياتهم هذه في سعادات وهي التي إذا بعثوا أدخلهم بها الله الجنات، فالناس إذا لزموا طاعة الله نالوا الخير والسعادة بعد الممات وخير ما تزوده المرء تقوى الله.
عن أبي ذر الغفاري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» رواه الترمذي.
هذا حديث عظيم خاطب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل أبا ذر أحد السابقين في الإسلام وتلبية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لما اسلم والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة ورأى من حرصه على المقام معه وعلم أنه لا يقدر على ذلك قال له هذه المقالة.
واشتملت هذه المقالة على أمور ثلاثة جمع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حق الله وحقوق العباد فحق الله على عباده أن يتقوه حق تقاته والتقوى كلمة جامعة للفضائل والكمالات مانعة من النقائض والرذالات وبعبارة أخرى هي امتثال الأمر واجتناب النهى والوقوف عند الحد الشرعي الذي حده الله ورسوله.
وهذه الوصية هي وصية الله للأولين والآخرين ووصية كل رسول لقومه أن يقولوا اعبدوا الله واتقوه ويجب أن تعلم وأن التقوى في الدارين باب واسع للمتقي الملازم للأدب ينفذ منه أن نزلت بالناس شدائد أو نزل شدة لا مفر منها وإن شئت فاقرأ قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}.
إن ربنا الذي بيده أزمة الأمور: بيده الأمر كله في الدنيا والآخرة هو الذي يقول ذلك لا زيد ولا عمرو ولا خالدٌ ولا بكرٌ والتقوى جمال للمرء لا يماثله جمال في نظر الأفاضل المتقين ولقد أحسن من قال:
فَعَلَيْكَ تَقْوَى للهِ فَالْزِمْهَا تَفُزْ ** إِنَّ التَّقِيَّ هُوَ الْْبَهِيُّ الأَهِيبُ

وَاعْمَلْ بِطَاعَتِهِ تَنَلْ مِنْهُ الرِّضَا ** إِنَّ الْمُطِيعَ لَهُ لَدَيْهِ مُقَرَّبُ

آخر:
إِنَّ التَّقِيَّ إِذَا زَلَّتْ بِهِ قَدَمٌ ** يَهْوِي عَلَى فُرُشِ الدِّيبَاجِ وَالسُّرِرُ

آخر:
يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ ** وَيَأْبَى اللهُ إِلا مَا أَرَادَا

يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي ** وَتَقْوَى اللهِ أَعْظَمُ مَا اسْتَفَادَا

آخر:
أَطْيَبُ الطَّيِّبَاتِ فِعْلُ الْفَرَائِضْ ** وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ لِقَتْلِ الأَعَادِي

وَرَسُولٌ يُهْدِي إِلَيْكَ نَصِيحَةً ** تَنْتَفِعْ فِيهَا أُخَيَّ فِي الْمَعَادَ

آخر:
أَطِعِ الإِلَهَ وَلا تُطِعْ لِهَوَاكَا ** إِنَّ الإِلَهَ إِذَا أَطِعْتَ هَدَاكَا

وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لا تَسُودُ وَلَنْ تَرَى ** سُبل الرَّشَادِ إِذَا عَصَيْتَ الله

آخر:
وَلا عَيْشَ إِلا مَعْ رِجَالٍ قُلُوبُهُم ** تَحُنُّ إِلَى التَّقْوَى وَتَرْتَاحُ لِلذِّكْر

وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر اتق الله حيثما كنت أي بأي زمان وجدت وأي مكان أقمت فإن التقوى لا تتقيد بزمان ولا مكان وإنما هي عبادة وإخلاص للرحمن وكف عن محارمه ومكافحة لهوى النفس والشيطان.
وموضعها القلب من كل إنسان على حد قوله صلى الله عليه وسلم: «التقوى هاهنا ويشير إلى صدره» وتظهر آثارها على الجوارح بعمل الطاعات والانكفاف عن المحرمات.
وقال صلى الله عليه وسلم: «أن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم»، فعلى الإنسان أن يبذل جده واجتهاده في تحسين موضع نظر الله منه ليكون نقيًا طاهرًا خاليًا من الغش والحسد والحقد والظنون السيئة بالمسلمين خاليا من جميع الأمراض النفسية والخلقية فلعل الله ينظر له نظرة قبولٍ ورحمةٍ وعطفٍ وإحسانٍ وامتنانٍ.
يا أبا ذر أمرتك بالتقوى المشتملة على امتثال أمر الله والابتعاد عن محارمه.
وكتب عمر رضي الله عنه إلى أمير جيشه سعد ابن أبي وقاص يحضه فيه على تقوى الله ويحذره المعاصي فقال وبعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فان تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم فان ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله.
ولولا ذاك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعادتهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ولا تعلموا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله.
ولا تقولوا أن عدونا شر منا فلن يسلط علينا فرب قوم سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بالمعاصي كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولاً... واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم أسأل الله تعالى ذلك لي ولكم... اهـ.
فتأمل ما كتبه أمير المؤمنين إلى قائد جيشه يأمر بالتقوى ويحذره من المعاصي بأشد المواقف وأحرجها عند مقابلة المسلمين لجيش العدو من الكفرة المعاندين لعلمه أن تقوى الله أفضل العدة والذخيرة وأقوى عاملٍ لنصرة المسلمين على أعدائهم والغلبة عليهم والظفر بهم.
فتمسك المسلمون بوصية عمر وكانوا كما وصف رجل من الروم المسلمين لرجل من الروم أمير فقال جئتك من عند رجالٍ دقاقٍ يركبون خيولاً عتاقًا أما الليل فرهبان وأما النهار ففرسان لو حدثت جليسك حديثًا ما فهمه عنك لما علا من أصولهم بالقرآن والذكر فالتفت إلى أصحابة وقال أتاكم منهم مالا طاقة لكم به.
هُمُ الرِّجَالُ وَغَبْنٌ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ ** لَمْ يَتَّصِفْ بِمَعَالِي وَصْفِهِمْ رَجلُ

وقوله صلى الله عليه وسلم: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» لما كان العبد لابد أن يحصل منه تقصير في التقوى ولوازمها أمره صلى الله عليه وسلم بما يدفع ذلك ويمحوه فكأنه عليه الصلاة والسلام قال:
وحيث أن المرء لا يأمن على نفسه من الزلل والخطأ، فإذا ما وقعت منك زلة أو خطيئة فاتبعها بالحسنة فهي ماحية لها مخلصة لك من شرها وأثمها نظير قوله تعالى: {نَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ومن أساء إليك فقابله بالإحسان على حد قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
أَصْدَقُ صَدِيقَكَ إِنْ صَدَقْتَ صَدَاقَةً ** وَادْفَعْ عَدُوَّكَ بِالَّتِي فَإِذَا الَّذِي

وهذا من أكرم أخلاق المرء وأجل صفاته فإذا أساء إليك مسيء من الخلق خصوصًا من له حق عليك كالأقارب والأصحاب ونحوهم فقابل إساءته بالإحسان وسواء كانت إساءة قولية أو فعلية فإن قطعك فصله وإن ظلمك فاعف عنه وإن تكلم فيك غائبًا أو حاضرًا فلا تقابله بالإساءة بل اعف عنه وعامله بالقول اللين وإن هجرك وترك خطابك فطيب له الكلام وابذل له السلام كما قيل:
وَأَنْ أَسَاهُ مُسِيٌ فَلْيَكُنْ لَكَ فِي ** عُرُوضُ زَلَّتِهِ عَفْوٌ غُفْرَانُ

آخر:
فَإِنْ جَارَيْتَ ذَا جُرْمِِ بِجُرْمٍ ** فَمَا فَضْلُ الْمَصُونِ عَلَى الْمُذَالِ

آخر:
إِذَا سَفَهَ السَّفِيهُ عَلَيْكَ فَاجْعَلْ ** سُكُوتَكَ عِنْدَ مِنْ شَرَفَ الْخِصَال

فإذا قابلت الإساءة بالإحسان حصل فائدة عظيمة: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، كأنه قريب شقيق وهذا فيما إذا كان المتعدي من غير قصدٍ وأهلاً للعفو والمسامحة والمقابلة بالتي هي أحسن والحذر من الكبر والعجب.
كَمْ جَاهِلٍ مُتَوَاضِعٍ ** سَتَرَ التَّوَاضُعُ جَهْلَهْ

وَمُمَيِّزٍ فِي عِلْمِهِ ** هَدَمَ التَّكَبُّرُ فَضْلَهْ

فَدَعْ التَّكَبُّرَ مَا حَيِـ ** ـيتَ وَلا تُصَاحِبْ أَهْلَهُ

فَالْكِبْرُ عَيْبٌ لِلْفَتَى ** أَبَدًا يُقَبِّحُ فِعْلَهْ

وأما أن كان من المتغطر سين المتكبرين الذين يزيدهم العفو عتوًا وطغيانًا وتماديًا في ظلمهم وشرهم وبغيهم فاستعمال الشدة والحزم والقسوة أولى ليرتدعوا لأن اللئيم إذا كرمته تمرد وإذا أهنته ربما تأدب واعتدال. وقديما قيل:
إِنَّ الصَّنِيعَةَ لِلأَنْذَالِ تُفْسِدُهُمْ ** كَمَا تُضِرُّ رِيَاحُ الْوَرْدَ بِالْجَعَل

آخر:
إِنَّ الْعَبِيدَ إِذَا أَذْلَلْتَهُمْ صَلَحُوا ** عَلَى الْهَوَانِ وَإِنْ أَكْرَمْتَهُمْ فَسَدُوا

آخر:
إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَكْتَهُ ** وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا

فَوَضعُ النَّدَا فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالْعُلا ** مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النِّدَا

إِنَّ الْحَدِيدَ تُلِينُ النَّارُ قَسْوَتَهُ ** وَلَوْ صَبَبْتَ عَلَيْهِ الْبَحْرَ مَا لانَا

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}، مدهم جل وعلا لانتصارهم لأنفسهم ممن بغى عليهم وأردف جل وعلا ذلك بما يدل على أن الانتصار مقيد بالمثل لأن النقصان حيف والزيادة ظلم والتساوي هو العدل الذي قامت به السموات والأرض فقال: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}.
ونعود إلى الكلام على آخر جملة في الحديث وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «وخالق الناس بخلق حسن» أي من غير تكلف، والخلق صورة الإنسان الباطنة. والخلق الحسن في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم هو أس الفضائل وينبوع المكارم وعين الكمال.
وفي حديث مسلم عنه عليه السلام قال: «البر حسن الخلق» المعنى أن خير خصال البر وأعظمها حسن الخلق نظير قوله عليه السلام: «الحج عرفه» وناهيك أن الله سبحانه امتدح محمدًا صلى الله عليه وسلم به لبيان فضله وعلو منزلته وشرفه فقال عز من قائل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر مهمته التي لأجلها بعث وبها جاء من عند الله تعالى فيقول إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} إلى آخر ما جاء في هذه الآيات وما شاكلها من الآيات ولنا الأسوة الحسنة في قوله وفعله وقد ذكرنا نماذج من حلمه صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد في الحدث على حسن الخلق أحاديث كثيرة ومن حسن الخلق لين الجانب والتواضع وعدم الغضب وكف الأذى عنهم والعفو عن مساويهم وأذيتهم ومعاملتهم بالإحسان القولي والإحسان الفعلي وبشاشة الوجه ولطف الكلام والقول الجميل المؤنس للجليس المدخل عليه السرور المزيل عنه الوحشة.
ومن الخلق الحسن أن تعامل كل أحد بما يليق به ويناسب حاله ومما يثمره حسن الخلق تيسير الأمور وحب الخلق له ومعونتهم والابتعاد عن أذاه وقلة مشاكله في الحياة مع الناس والمجالسين له واطمئنان نفسه وطيب عيشه ورضاؤه به.
ومن محاسن الأخلاق الصدق والوفاء والشهامة والنجدة وعزة النفس والتواضع وعلو الهمة والتثبيت والعفو والبشر والرحمة والشجاعة والوقار والورع والصيانة والصبر والحياء والسخاء والنزاهة والقناعة وحفظ السر والعفة والإيثار.
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحها ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله علي محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَسْعَدُنَا مَنْ وَفَقَ الله ** لِكُلِّ فِعْلٍ مِنْهُ يَرْضَاهُ

وَمَنْ رَضِي مِنْ رِزْقِهِ بِالَّذِي ** قَدَّرَهُ اللهُ وَأَعْطَاهُ

وَاطَّرَحَ الْحِرْصَ وَأَطْمَاعَهُ ** فِي نَيْلِ مَا لَمْ يُعْطِهِ مَوْلاهُ

طُوبَى لِمَنْ فَكَّرَ فِي بَعْثِهِ ** مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدْعُو بِهِ اللهُ

وَاسْتَدْرَكَ الْفَارِطَ فِيمَا مَضَى ** وَمَا نَسِي فَاللهُ أَحْصَاهُ

فَالْمَوْتُ حَتْمٌ فِي جَمِيعِ الْوَرَى ** طُوبَى لِمَنْ تُحْمِدُ عُقْبَاهُ

وَكُلُّ مَنْ عَاشَ إِلَى غَايَةٍ ** فِي الْعُمْرِ فَالْمَوْتُ قُصَارَاهُ

يَعْلَمُهُ حَقًّا يَقِينًا بِلا ** شَكٍّ وَلَكِنْ يَتَنَاسَاهُ

كَأَنَّمَا خُصَّ بِهِ غَيْرَنَا ** أَوْ هُوَ خَطْبٌ نَتَوَقَّاهُ

وَإِنْ جَرَى ذِكْرٌ لَهُ بَيْنَنَا ** قُلْنَا جَمِيعًا قَدْ عَلِمْنَاهُ

وَلَيْسَ فِينَا وَاحِدٌ عَامِلٌ ** لِغَيْرِ مَا يُصْلِحُ دُنْيَاهُ

كَمْ آمِنٍ فِي سِرْبِهِ غَافِلٍ ** فِي أَعْظَمِ الْعِزِّ وَأَوْفَاهُ

أَمْوَالُهُ لا تُنْحَصِي كَثِيرَةً ** وَالْخَلْقُ تَرْجُوهُ وَتَخْشَاهُ

وَمِنْ عَظِيمِ الذِّكْرِ فِي نِعْمَةٍ ** يُرْجَى وَيُخْشَى وَلَهُ جَاهُ

قَدْ بَاتَ فِي خَفْضٍ وَفِي غِبْطَةٍ ** فِي أَطْيَبِ الْعَيْشِ وَأَهْنَاهُ

أَصْبَحَ قَدْ فَارَقَ ذَا كُلَّهُ ** قَهْرًا وَصَارَ الْقَبْرُ مَثْوَاهُ

فَزَالَتِ النِّعْمَةُ فِي لَحْظَةٍ ** وَاسْتُرْجِعَتْ مِنْهُ عَطَايَاهُ

سِيقَ إِلَى دَارِ الْبَلَى مُكْرِهًا ** لَمْ يُغْنِ عَنْهُ الْمَالُ وَالْجَاهُ

وَكُلُّ مَنْ كَانَ وَدُودًا لَهُ ** تَحْتَ تُرَابِ الأَرْضِ وَارَاهُ

حَتَّى إِذَا مَا غَابَ عَنْ عَيْنِيهِ ** عَادَ إِلَى الدُّنْيَا وَخَلاهُ

مُقَاطَعًا مُطََّرَحًا مُهْمَلاً ** مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ يَتَجَافَاهُ

كَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ سَاعَةً ** وَلَمْ يَكُنْ فِي الدَّهْرِ لاقَاهُ

لِي أَجَلٌ قَدَّرَهُ خَالِقِي ** نِعَمٌ وَرِزْقٌ أَتَوَفَّاهُ

اللهم أنظمنا في سلك الفائزين برضوانك، واجعلنا من المتقين الذين أعددت لهم فسيح جنانك، وأدخلنا برحمتك في دار أمانك، وعافنا يا مولانا في الدنيا والآخرة من جميع البلايا، وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.